بحثتُ في حساب قلبي المصرفي، فوجدتُ ديوناً كثيرة تراكمت علي، بعضها ابتسامةٌ حلوة، وبعضها كلماتٌ عذبة، وأغلاها نصحٌ وموعظة حسنة، قدّمها إلي أناسٌ رائعون في حياتي قرضاً مازال يعلو رصيده داخل القلب، فقد علموني أن جمال الحياة في عطائها يفوق جمالها في الأخذ.
وخلال بحثي فاجأتني مشاعرُ كثيرةٌ تلاشت من رصيدي، بعضها نقاءٌ سُرقَ في خلافاتٍ عابرة، وبعضها حبٌّ نُهب، حين أودع في غير مصرفه، أو خير توانيتُ عن تقديمه، ووجدتُ آلاماً كثيرة وجراحاً عميقة سببها لي الآخرون، قد تراكمت في داخلي فتجاوزت النطاق المعقول.
في الحقيقة ما كنتُ لأتنبه لهذا الأمر لولا أن تحذيراً هاماً قد وصل إلى قلبي يخبره أنني في حالة خطرة من الضيق والحزن والنقمة على الآخرين، أسرعتُ وفتشتُ عن رصيد النقاء فوجدته يتراجع بسرعة خيالية، فيقترب من حدوده الدنيا، عندها انتابتني مشاعرُ خوف عميقة من أن أصبح إنساناً آخر أكرهه، دون أفهم سبب كرهي له.
تذكرتُ وصية ذلك الشيخ الذي مر يوماً قرب حديقة منزلي، وقطف بعض زهر الياسمين، ولحظني أراقبه مبتسماً فقال لي أي بنيّ فلتحفظ هذا النقاء في داخلك، عندها فقط أدركتُ أنني أمتلك حساباً لا بأس به من النقاء، في تلك الأيام كنتُ أحملُ قلب طفل وروح طفل بريئة طاهرة.
إنني اليوم في مأزق كبير، رصيدي الإنساني يتراجع، وتتكاتف علي أحزاني لتنهب ما تبقى من حسابي الخاص، ترغمني أن أدفع تكاليفاً باهظة لتغطية ثمن أسلحة غضبي، التي تطلب دائماً مني مزيداً من الدعم، أو أدفع تكاليف علاج مساحات الألم التي تتشعب في داخلي، والتي كلما حاولت علاجها امتدت من جديد.
فكرتُ في إيجاد حل لهذه المعضلة، وسريعاً طالبتُ موظف الحسابات أن يعطني دفتر الشيكات الخاص بي، وجلستُ على أريكة صغيرة قرب نافذة روحي، ورحتُ أخط شيكات صفح ومسامحة وعفو عن كل أولئك الذين أساءوا يوماً إلي، كانت المبالغ منوعة بعضها باهظ وبعضها بسيط، وتراوحت بين عفو وصفح ودعاء بالخير، أو تقديم عون على خير وذكر حسن.
لا أنكر أن تصرفي هذا قد أزعج اللجنة المختصة بأسلحة غضبي، وكذلك لجنة حد انتشار الألم، فمد المشاعر ينسحب من أرضهم إلى آفاق أخرى، لكنني تجاهلت ببساطة تنديدهم واعتراضهم وشكواهم، وتابعتُ العمل.
ساعات من الوقت مرت شعرتُ بعدها أنني قد أنهيتُ كل الأسماء العالقة كنقاط سوداء في الذاكرة، أنهيت العمل بكتابة شيك على بياض لكل من ينوي الإساءة لي مستقبلاً.
أنا الموقع علي جدار القلب
أقر بأنني سامحتكم من كل قلبي، وبأنني لا أنتظر منكم اعتذاراً ولا مكافأة ولا حتى اعترافاً بالخطأ، وبأنني سأصرف ما تبقى لي من رصيد في هذه الحياة، لما فيه خيركم أبتغي بذلك وجه الله تعالى، لعله يرحمني ويغفر إساءتي.
وأخيراً .. داعب أجفاني النوم بعد سنوات من أرق،عندها شعرتُ أنني أنام مجدداً، كـ طفل صغير !